في زمنٍ تغيّر فيه وجه الكنيسة، واشتدّت فيه التحدّيات الفكرية والروحية في العالم العربي، ظهر صوت هادئ لكنه ثابت، مليء بالحكمة والاتزان…
صوت رجل لم يسع إلى الأضواء، لكنه ترك نوراً لا ينطفئ في قلوب الآلاف.
إنه الدكتور منيس عبد النور – القائد والمعلم الذي جمع بين الفكر اللاهوتي العميق، والقلب الرعوي الحاني.
وُلد منيس عبد النور في القاهرة عام 1920 ونشأ في بيت مسيحي بسيط، لكنه امتلأ بمحبة الكلمة.
منذ شبابه، كان مولعاً بالقراءة والدراسة، فاختار أن يُكرّس حياته لخدمة الإنجيل وتعليم الحق.
درس اللاهوت في معهد القاهرة اللاهوتي، ثم سافر إلى الولايات المتحدة ليكمل دراسته اللاهوتية، وهناك حصل على الدكتوراه من كلية “برنستون اللاهوتية”، لكنه عاد إلى وطنه لا كباحث متعال، بل كخادم بسيط يرى في التعليم وسيلة لشفاء القلوب قبل العقول.
قاد الكنيسة الإنجيلية في قصر الدوبارة، إحدى أبرز الكنائس في الشرق الأوسط، ولسنوات طويلة كان منبره مصدر إلهام روحي وفكري للآلاف من مختلف الطوائف والخلفيات.
تميّز بأسلوب بسيط لكنه عميق، كان يعرف كيف يقدّم أعقد المفاهيم اللاهوتية بلغة يفهمها الجميع، ويُخرج من الكتاب المقدس دُرراً تمسّ الحياة اليومية للمؤمن.
من فوق منبر كنيسته، ومن خلال برامجه وإصداراته، أعلن الحق بلا خوف، وعلّم أن المحبة ليست ضعفاً، بل قوة من نوع آخر.
ولهذا صار صوته مألوفاً لكل بيت عربي يتوق إلى كلمة صادقة، سواء في عظاته أو في برنامجه الشهير”ليكن نور” الذي قدّم رسالة الإنجيل بلغة يفهمها البسطاء والمثقفون على السواء.
لكن ما جعل خدمته فريدة لم يكن ذكاءه أو ثقافته، بل اتضاعه العميق.
كان دائماً يقول: “الكنيسة ليست مكاناً لنعرض فيه مواهبنا، بل موضع نغسل فيه أقدام الآخرين”.
لم يكن تأثير الدكتور منيس عبد النور مقصوراً على المنبر أو على كتبه فقط، بل شكّل جسراً روحياً وفكرياً في مرحلة دقيقة من تاريخ الكنيسة في الشرق الأوسط في الوقت الذي انقسم فيه الفكر المسيحي بين التشدّد والانفتاح المفرط، قدّم القس منيس نموذجاً متّزناً يجمع بين الأصالة الكتابية والعقل المتجدد.
علّم جيلاً كاملاً من القادة والخدام أن اللاهوت ليس جدلاً فكرياً، بل طريقٌ لفهم قلب الله، وأن الإيمان الحقيقي لا ينعزل عن المجتمع، بل يدخل إلى عمقه ليُعلّم، ويشفي، ويخدم.
بفضل حكمته واتزانه، ساهم في تكوين ملامح النهضة الإنجيلية الحديثة في العالم العربي،
فقدّم صورة ناضجة للكنيسة: كنيسة تصلي وتفكر، تخدم وتحب، تؤمن وتتعلم.
ألّف الدكتور منيس العديد من الكتب والمؤلفات التفسيرية التي أصبحت مراجع أساسية في التعليم الكتابي، منها: (( شبهات وهمية حول الكتاب المقدس، المحبة لا تسقط أبداً، معجزات المسيح..)
ومع كل هذا الإرث العظيم، ظلّ الدكتور منيس معروفاً بتواضعه، وحسّ الدعابة الهادئ،
والقلب الأبوي الذي يقترب من الجميع بلا حواجز.
كان يؤمن أن الخدمة ليست سلطة ولا شهرة، بل غّسل أقدام يومي في محبة الناس كما فعل المسيح.
رحل القس منيس عبد النور عن عالمنا عام 2011 لكن صوته لم يصمت، لأن الرجال الذين يخدمون بصدق لا تنتهي رسالتهم بالموت.
لا يزال صدى كلماته يُذكّرنا أن الخدمة ليست شهرة، بل تضحية، وأن الإيمان لا يُقاس بالكلمات، بل بالثمر.تقول سيرته شيئاً بسيطاً لكنه قوي:
أنت لا تحتاج إلى شهرة لتغيّر العالم، بل إلى قلب صادق يعرف من يخدم، ولماذا يخدم؟!
فالله لا يستخدم العظماء في نظر الناس، بل الأمناء في عينيه.
