في زمنٍ كانت الكنيسة تعاني من الأسئلة والاختلافات، ووسط صراع الفكر والهرطقات، أشرق في سماء الإيمان صوت لا يشبه سواه…
صوت شاعر ونبيّ ومعلم روحيّ في آنٍ واحد، حمل الكلمة كمن يحمل شعلة في ليل طويل.
ذلك الصوت كان مار أفرام السرياني “قيثارة الروح القدس” كما لُقّب عبر القرون.
وُلد أفرام في مدينة نصيبين (على الحدود بين تركيا وسوريا اليوم) حوالي عام 306 ميلادي، في زمن مضطرب سياسياً ودينياً.
نشأ في عائلة متواضعة، لكنه كان منذ صغره مشغولاً بما هو أعمق من العيش والبقاء.
كان قلبه عطشاناً للحق، وعقله يشتعل بالأسئلة عن الله والإنسان والمعنى.
منذ شبابه، كان قلبه مملوءاً بالعطش إلى الله، وعقله يتوق إلى الحقيقة.
اختبر الإيمان في عمق الألم، إذ رأى مدينته تُحاصر وتُهجّر، فعرف أن الرجاء لا يُولد من الراحة، بل من الرماد.
كرّس حياته للتعليم والكتابة والترتيل، فكان شاعراً يبكي وهو يكتب، ومعلّماً يصلي وهو يعلّم.
كتب أكثر من 400 ترنيمة وتفاسير عميقة للكتاب المقدس، حفظ الشعب ترانيمه عن ظهر قلب، لأنها لم تكن كلمات بل صلوات حيّة.
كان يرى أن التعليم الحقيقي لا يحدث في الجدل والمناظرات، بل في الترانيم والدموع،
لأن ما يُقال بالشعر يصل إلى القلب أسرع مما يُقال بالمنطق.
لم يكن مار أفرام مجرد شاعر يكتب عن الإيمان، بل كان مفكراً روحياً عميقاً غيّر طريقة فهم الكنيسة لله.
في زمن كان الناس يحاولون تفسير الأسرار الإلهية بالعقل والمنطق، جاء أفرام ليقول إن الله لا يُفهَم بالعقل وحده، بل بالقلب أيضاً.
كان يرى أن الحديث عن الله يحتاج إلى رهبة الشعر أكثر من دقّة الجدل، لأن الله أعظم من أن نُحصره في كلمات.
في كتاباته وترانيمه، شرح أفرام سرّ التجسد والفداء بطريقة تمس القلب قبل الفكر.
ومن خلال هذا التعليم، أصبح أفرام أحد أهم من وضعوا أساس اللاهوت الشرقي،
اللاهوت الذي لا يفصل بين الفكر والعبادة، بل يرى أن التسبيح نفسه نوع من التعليم.
فكل ترنيمة هي درس في الإيمان، وكل دمعة في الصلاة هي معرفة حقيقية بالله.
ورغم أن أفرام لم يطلب الشهرة، صار صوته يُردَّد في الكنائس من السريان إلى اليونان إلى الأقباط، ولأنه عاش ما كتب، كانت كلماته تشفي القلوب وتُشعل الرجاء.
كان يقول: “عندما تصلي، ليت أنفاسك تكون تسبيحاً، ودموعك كلماتك.”
وفي السنوات الأخيرة من حياته، خدم الفقراء والمرضى خلال المجاعات، وكان يحمل الطعام بيديه لمن لا يقدرون على المشي.
ومات كما عاش: متواضعاً، خادما،ً شاعراً لله.
إلى اليوم، ما زالت الكنائس الشرقية تردّد ترانيمه،
لأن كلماته لم تكن مجرد شعر، بل كانت نَفَساً روحياً لا يشيخ.
لقد علّمنا مار أفرام أن الإيمان ليس مسألة فهم فقط، بل لقاء حيّ مع الله الحاضر في كل شيء حولنا.
ربما وأنت تقرأ قصته، تشعر أن هذا الإنسان عاش في زمن بعيد عن زمنك،
لكن الحقيقة أن العالم لم يتغيّر كثيراً…
ما زالت القلوب عطشى، وما زالت الكلمات الجافة لا تشبع الروح.
وحين تتذكر مار أفرام، تذكّر أن الله قادر أن يستخدم صوتك أنت أيضاً- مهما بدا بسيطاً – ليُشعل نوراً في ظلمة ما.
