كان الليل بارداً، والشوارع غارقة في المطر، حين رأى الطفل الصغير يرتجف على حافة الطريق، وحيداً، مبللاً، جائعاً، ينظر إلى المارة بعينين فقدتا الأمل.

توقف الطبيب الشاب، توماس جون بارناردو، أمامه، سأله الطفل بصوت خافت:

“هل يمكنك أن تجد لي مكاناً أنام فيه الليلة؟”، تلك الجملة لم تكن مجرد سؤال من طفل مُشرد، بل كانت النداء الذي غيّر مجرى حياة بارناردو إلى الأبد.

وُلد توماس جون بارناردو عام 1845 في أيرلندا، في بيت ميسور، وكان حلمه أن يصير طبيباً مرسلاً إلى الصين ليكرز هناك بالمسيح ويعالج المرضى، لكنه حين وصل إلى لندن للدراسة في كلية الطب، صُدم بما رآه: أطفال بلا مأوى ينامون في الشوارع، يموتون جوعاً وبرداً في بلد يُفترض أنه قلب الحضارة.

لم يستطع أن يحجب وجهه عنهم، لم تعد الشهادة هدفه، ولا السفر حلماً، بل صار خلاص هؤلاء الصغار دعوته الجديدة.

بدأ بارناردو مشروعه الأول سنة 1867 حين استأجر بيتاً صغيراً في شرق لندن ليؤوي فيه بعض الأطفال، وكان يكتب على الباب لافتة تقول: “لا يُرفض أي صبي عند الباب”

هذه الجملة لم تكن شعاراً، بل وصية عاش بها حتى موته، ومع مرور السنوات، تحوّل البيت الصغير إلى سلسلة من المنازل والملاجئ والمدارس والمصانع التدريبية التي غيّرت حياة أكثر من 60 ألف طفل.

كان يؤمن أن الرحمة الحقيقية لا تُقاس بالكلمات، بل بالقدرة على ملامسة جراح الآخر.

لم يكتفِ بإطعام الجائعين أو إيواء المشرّدين، بل علّمهم، وفتح أمامهم أبواب العمل والحياة الكريمة.

لم يكن يرى فيهم عبئاً، بل صورة المسيح الجائع والعطشان والمهمَل الذي قال: “كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم.”

لكن الطريق لم يكن سهلاً، تعرّض بارناردو لانتقادات كثيرة، واتُهم بالمبالغة في رواياته أو بسوء الإدارة، لكنه لم يتوقف.. كان يقول: “عندما تكون هناك حياة يمكن إنقاذها، فكل تأخير خطيئة.” كانت صلاته اليومية أن يملك قلباً لا يتعب من العطاء، وإيماناً لا يتراجع أمام قسوة العالم.

تحوّل بيته إلى رمز للأمل، ومدرسته إلى منارة للتجديد في الخدمة المسيحية، وامتدت أفكاره إلى كل العالم.

لم يكن مجرّد مُصلح اجتماعي، بل كان رجل صلاة يرى في كل طفل فرصة للقاء الله.
وفي سنواته الأخيرة، كتب في مذكراته: “كنت أبحث عن الله في البعيد، فوجدته في وجه طفل جائع”.

رحل توماس جون بارناردو عام 1905 لكن مؤسساته لا تزال تعمل حتى اليوم، تُنقذ الأرواح وتزرع الكرامة في مَن ظنوا أن لا مكان لهم في هذا العالم.
ترك وراءه درساً خالداً لكل مؤمن، أن الإيمان ليس ما نردّده في صلواتنا، بل ما نفعله حين نرى إنساناً مكسوراً أمامنا.

وربما لا تملُك بيتاً تأوي فيه المشردين، لكن يُمكنك أن تفتح قلبك، تمنح دفئاً، تزرع أملاً.

فالله لا يطلب منك أن تُصلح العالم كله، بل أن تُضئ شمعة في الظلام الذي أمامك – كما فعل توماس بارناردو، الطبيب الذي جعل من الرحمة منهج حياة، ومن الحب رسالة لا تموت.