في زمنٍ ازدادت فيه الضوضاء وقلّت الأصوات الحقيقية، ظهر صوتٌ يحمل هدوء الأب، ودفء المعلم، وصدق الراعي الذي يعيش ما يقول.
صوتٌ لم يسعَ للشهرة، لكنها جاءت تبحث عنه، ذلك هو أبونا داود لمعي – الكاهن الذي صار رمزاً للإيمان البسيط، والتعليم العميق، والمحبة العملية.
وُلد أبونا داود في القاهرة عام 1965 ونشأ في أسرة قبطية متدينة زرعت فيه منذ صغره محبة الكنيسة.
كان شاباً متفوقاً، تخرّج من كلية الهندسة جامعة القاهرة، وبدأ مشواره المهني في مجال واعد.
لكن داخله كان جوع لا يُروى – جوعٌ لشيء أبعد من النجاح الأرضي.
ومن خلال خدمته في مدارس الأحد وشباب الكنيسة، بدأ يسمع الدعوة الإلهية تناديه بهدوء:
“اترك ما هو وقتي، وامشِ في ما هو أبدي.”
في عام 1995 تمت رسامته كاهناً على كنيسة القديس مارمرقس بمصر الجديدة،
ومنذ اليوم الأول لخدمته، كان يحمل رؤية واضحة: ” أن الكلمة تُغيّر القلوب، وأن الإيمان لا بد أن يُعاش في الواقع.”
بدأ بخدمة الشباب، فحوّل اجتماعات بسيطة إلى منارة روحية يقصدها المئات أسبوعياً،
ثم امتدت خدمته عبر الندوات والمؤتمرات والبرامج التلفزيونية مثل: “كلمة منفعة”
وفتشوا الكتب”
بأسلوبه المتزن وصوته الهادئ، قدّم نموذج رائع عن الكهنوت:
فالكاهن ليس بعيداً في برج روحي، بل قريب من الناس، يسمعهم، ويمشي معهم، ويُرشدهم نحو الله بخطوات واقعية.
كان يؤمن أن الإيمان لا يُفرَض، بل يُكتَشف، وأن الشاب يحتاج أن يُحَبّ أولاً قبل أن يُنصَح.
ومن خلال خدمته المنتظمة في التعليم، أسس مفهوم “الخدمة التعليمية” داخل الكنيسة الأرثوذكسية الحديثة.
قدّم دراسات كتابية منهجية بأسلوب سهل، يربط النصوص المقدسة بالحياة اليومية.
ومن خلال مؤتمرات الشباب التي يقيمها سنوياً، ولقاءاته المنتظمة في كنائس كثيرة، ساعد آلاف الشباب على اكتشاف دعوتهم، وتصحيح صورتهم عن الله وعن أنفسهم.
لم تقتصر خدمته على التعليم فقط، بل امتدت إلى العمل الاجتماعي والرعوي.
فمن خلال خدمة مارمرقس للمجتمع، شارك في تأسيس مشروعات تنموية لمساعدة الأسر البسيطة، وإطلاق مبادرات لدعم التعليم والعلاج للفقراء.
إيمانه لم يكن كلمات، بل فعل محبة عملي يلمس الواقع.
في بداية الألفية الجديدة، بدأت خدمته تنتشر عبر الإنترنت والمنصات الرقمية،
وأصبحت تسجيلاته اليومية مصدر إلهام لملايين حول العالم، خصوصاً بين الشباب الذين وجدوا فيه صوتاً حقيقياً يفهمهم، ويقدّم الإيمان بلغة قريبة من القلب، دون أن يفقد عمقه الأرثوذكسي الأصيل.
ومن هنا، صار أبونا داود لمعي نموذجاً للكاهن المعاصر- المحب، المتواضع، المعلّم، والراعي الذي يقود أولاده بروح النعمة لا بروح الإدانة.
رحلة حياته ليست رحلة كهنوت فقط، بل شهادة على أن الروح الهادئة تستطيع أن تُحدث ثورة روحية في صمت.
أعاد تعريف الخدمة، لا كمنبر يُخاطَب منه الناس، بل كحياة تُعاش وسطهم.
واليوم، تبقى كلماته تُذكّرنا: “ابدأ من حيث أنت، وربنا يكمل بك.”
فإن كنت تشعر بالتيه، أو بضعف الإيمان، أو بأن خدمتك بلا أثر،
تذكّر أن الله لا يبحث عن العظماء، بل عن الأمناء.
تماماً كما يستخدم أبونا داود لمعي ليُحيي نفوساً كثيرة،
يمكنه أن يستخدمك أنت أيضاً… حين تفتح قلبك، وتترك له المجال أن يعمل من خلالك.
