كان يبحث عن الله كما يبحث الغريق عن نسمة هواء، لم يهرب من العالم بل هرب إلى الحقيقة. ترك الزحام والضوضاء وكل ما يلمع ليجد الصمت الذي يُشعل الروح، كان يؤمن أن المعرفة الحقيقية لا تُؤخذ من الكتب، بل تُولد من الدموع.
وهكذا بدأت رحلة الأب متى المسكين، الراهب الذي اختار أن يعيش لله وحده، فصار اسمه يُذكَر كلما تحدّث الناس عن العمق، أو الصدق، أو الإيمان الذي لا يعرف أنصاف الطرق.
وُلد يوسف إسكندر عام 1919 في مدينة بنها، وسط أسرة ميسورة وفرت له تعليماً راقياً وفرصاً واعدة في الطب والصيدلة.
كان شاباً ناجحاً بكل مقاييس العالم، لكنه شعر أن شيئاً ما ينقصه، شيئاً لا يُملأ بالعلم ولا بالمكانة.
كانت داخله نارٌ لا تهدأ، عطشٌ لمعرفة الله لا من الكتب فقط، بل من التجربة، ترك الحياة المريحة، وذهب إلى الصحراء ليبدأ حياة جديدة، حياة الراهب التي لا يعرفها إلا من ذاقها، هناك صار الأب متى المسكين- الراهب الذي أحب الله حتى النخاع.
في الصحراء اكتشف أن الصمت ليس هروباً بل امتلاء، وأن الوحدة ليست فراغاً بل لقاء. كان يقضي الساعات الطويلة في الصلاة والتأمل في كلمة الله، يكتب بدموعه قبل قلمه. لكنه لم يكن ناسكاً منغلقاً، بل مفكراً عميقاً.
حمل همّ الكنيسة كلها في قلبه، كتب عن الروح القدس.. عن الصلاة.. عن التوبة.. عن النعمة التي تغيّر الإنسان من الداخل.. عن الله الذي لا يُدرَك بالعقل وحده، بل يُختبَر بالحب.
عاش الأب متى المسكين زمناً صعباً، واجه فيه سوء الفهم لكثير من المفاهيم الروحية داخل الكنيسة وخارجها. البعض لم يفهم فكره، والبعض خاف من جرأته. لكنه لم يردّ بكلمة قاسية، بل بصلاة أطول وصمت أعمق. كان يؤمن أن الحقيقة لا تحتاج إلى جدال، بل إلى حياة تشهد لها. ومع مرور الوقت، صار مثلاً في الاتضاع، ورمزاً للرؤية المتجددة التي جمعت بين الأصالة والتجديد، بين تقاليد الكنيسة القديمة واحتياج الإنسان المعاصر إلى الله.
حين تولى قيادة دير القديس مقاريوس بوادي النطرون، لم يكتفِ بتعميره بالحجارة، بل عمّره بالروح، جعل من الدير منارة للصلاة، ومدرسة للعمق الروحي، ومأوى للباحثين عن الله.
كانت بساطته تسبق هيبته، وكلماته تتسلل إلى القلب قبل العقل. لم يكن يسعى إلى تكوين أتباع، بل إلى أن يقود كل إنسان ليصير تلميذاً للمسيح وحده.
كتب الأب متى المسكين أكثر من 180 مؤلفاً في مجالات روحية واللاهوت والكتاب المقدس، تُرجمت العديد منها إلى لغات مختلفة، وأثّرت في آلاف الباحثين عن العمق والمعرفة الحية بالله. من أبرز كتبه: ((حياة الصلاة الأرثوذكسية، حاجتنا إلي المسيح، الخدمة، مع المسيح….))
ويُعتبر كتابه الأشهر”حياة الصلاة الأرثوذكسية” حجر الأساس لفهم روحانية الكنيسة القبطية في عمقها الحقيقي، فيه يكشف الأب متى المسكين أن الصلاة ليست طقساً أو واجباً، بل حياة مستمرة من اللقاء مع الله، فيها يتقدّس القلب ويستنير الفكر ويصير الإنسان بيتاً يسكن فيه الله بنفسه.
عاش الأب متى المسكين ما كتب، وكتب ما عاش، كان يؤمن أن الإيمان الحقيقي هو أن تُسلّم إرادتك لله، حتى لو لم تفهم الطريق، وحين اقتربت سنواته الأخيرة، لم يترك وصايا ضخمة أو كلمات عظيمة، بل ترك مثالاً صامتاً يقول: “من عرف الله، لا يحتاج إلى شيء آخر.”
رحل في عام 2006 لكنه ترك وراءه فكراً روحياُ، وأثراً روحياُ لا يزال يغيّر النفوس حتى اليوم.
قد يختلف الناس حول آرائه، لكن أحداً لا يقدر أن ينكر نوره في كل من قرأ كتبه أو سمع عنه أو زار ديره، هناك أثر باقٍ من سلامه… من صلاته… من اتضاعه.
في زمن يسعى فيه الجميع إلى الظهور، كان الأب متى المسكين يعلمنا أن الطريق إلى الله يبدأ حين تختفي الذات.
ربما لا تستطيع أن تترك كل شيء وتذهب إلى الصحراء، لكن يمكنك أن تبدأ رحلتك الداخلية، حيث تصمت لتسمع، وحيث تخلّي قلبك ليملئه الله.
أنت لست مُطالباً أن تصير راهباً، لكنك مدعو أن تصير إنساناً على صورة الله.
فالأب متى المسكين لم يكن مجرد مُفكر أو ناسك، بل كان إنساناً وجد في الله كل الإجابات، فعاشها بدل أن يشرحها.
ترك للعالم درساً خالداً يقول : “أن المعرفة الحقيقية لا تُكتَب في الكتب، بل تُحفر في القلوب التي ذاقت حضور الله.”
