في زمن ازدحم فيه العالم بالأصوات، ظهر رجل اختار الصمت لغة له.
صمته لم يكن فراغاً بل امتلاء بحضور الله. كان يمشي بخطوات هادئة، لا يطلب شهرة ولا يسعى لمجد، لكنه كان يعرف طريقه جيداً، “طريق المذبح”.
هناك، في فجر يسبق ضوء الشمس، كان يُشعل قنديل الصلاة قبل أن تستيقظ المدينة، إنه البابا كيرلس السادس (رجل الصلاة)، الرجل الذي جعل من البساطة هيبة، ومن الصمت صلاة، ومن الإيمان حياة.
وُلد عازر يوسف عطا في الإسكندرية عام 1902 وسط عائلة بسيطة أحبته وربّته على التقوى والعمل، ومع تقدمه في العمر، لم يكن قلبه مع العالم بل مع الله.
بعد فترة قصيرة من العمل في مصلحة السكة الحديد، قرر أن يترك كل شيء ويسير وراء دعوة داخلية لا تهدأ. وفي عام 1927 دخل دير السريان بوادي النطرون، حيث لبس ثوب الرهبنة واتخذ اسم مينا البراموسي.
عاش هناك حياة طاعة وصمت وخدمة، ثم انسحب إلى الصحراء ليعيش متوحداً في مغارة صغيرة، لم يكن معه سوى الإنجيل وبعض الخبز والماء، لكنه كان يشعر بغنى السماء في كل يوم جديد.
سنوات الوحدة صقلت قلبه، فصار إنساناً يرى الله في كل نسمة، ويسمع صوته في كل صمت. كان يقضي الليل في الصلاة، والنهار في التأمل والعمل اليدوي، وعندما احتاجت الكنيسة إلى راع جديد بعد نياحة البابا يوساب الثاني، اُختير هذا الراهب المتوحد ليصير البابا رقم 116 في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
كان الناس يتساءلون: كيف يُختار رجل لا يعرف السياسة ولا الإدارة؟ لكن الله كان يجهزه منذ سنين ليقود بالروح لا بالسلطة.
منذ أول يوم في البطريركية، أعاد البابا كيرلس الحياة إلى روح الكنيسة، كان يصحو قبل الجميع ليبدأ يومه بالقداس الإلهي، يرفع بخور الصباح عن كل إنسان، ثم يفتح أبواب البطريركية ليستقبل الكبير والصغير، الغني والفقير، بنفس الهدوء والعطف، لم يكن مكتبه قصراً مغلقاً بل بيتاً مفتوحاً يسكنه الرجاء.
اهتم بتجديد الأديرة وتشجيع الشباب على الرهبنة، فكان سبباً في نهضة روحية غير مسبوقة في منتصف القرن العشرين.
في عهده تم بناء الكاتدرائية المرقسية الجديدة بالعباسية، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي ربطته به علاقة احترام متبادل، وكان البابا كيرلس يرى في هذه العلاقة باباً لخدمة الوطن لا لتحقيق مكاسب شخصية.
كان دائماً يقول : “كنيستنا جزء من هذا الوطن، نصلّي من أجله كما نصلي من أجل خلاص النفوس” وكان في بساطته وهيبته رمزاً للسلام بين الإيمان والوطنية.
كانت حياته سلسلة من المعجزات الصغيرة التي تحدث في هدوء، كم من مريض شُفي بصلاته، وكم من باب مغلق فُتح حين وضع صليبه عليه، لكنه لم يتحدث يوماً عن معجزة، بل كان يقول بابتسامة: “الله هو العامل، أنا مجرد تراب”، فلم تكن قوته في اليد المرفوعة بل في القلب الخاشع. ولم يكن سرّه في كثرة الكلام، بل في عمق الصمت.
لم يكن البابا كيرلس رجل مؤسسات بل رجل حضور، ترك أثراً لا يُنسى في قلوب الملايين الذين لمسوا محبته وصدق صلاته.
كان يعرف أن القداسة ليست في المظاهر بل في التفاصيل الصغيرة:
في نظرة حنان، في صلاة فجر، في كلمة عزاء، في صمت أمام ظلم.
ظلّ يخدم الناس حتى أخر أيامه، إلى أن انتقل إلى السماء في مارس 1971 بعد حياة امتلأت بالعطاء والرجاء.
واليوم بعد مرور عقود على رحيله، لا يزال اسمه يُذكَر بخشوع، كأن حضوره لم يغِب قط.
فكل من عرفه أو قرأ عنه يشعر أنه ما زال يصلي من أجل هذا الجيل.
في عالم يطالبك أن تثبت نفسك، علّمنا البابا كيرلس أن العظمة الحقيقية هي أن تختفي في الله، أن تكون معروفاً في السماء لا فقط علي الأرض.
علّمنا أن نصلي بدل أن نتكلم… أن نثق بدل أن نقلق… وأن نحب بدل أن نحكم.
قد لا تكون راهباً ولا قائداً، لكنك تستطيع أن تكون إنساناً يحمل حضور الله أينما ذهب.
علمنا البابا كيرلس أن أبسط صلاة من قلب صادق قادرة أن تحرّك السماء.
فحين تُغلَق الأبواب، تذكّر أن السماء لا تُغلَق أبداً.. فقط ارفع قلبك كما رفعه البابا كيرلس، وسترى المعجزة في الوقت الذي تظنه متأخراً.
